فصل: تفسير الآيات رقم (4- 5)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


الجزء الثاني

سورة المائدة

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود‏}‏

أي‏:‏ بالعهود التي عَهِدْتُ إليكم أن تحفظوها، وهي حفظ الأموال، وحفظ الأنساب، وحفظ الأديان، وحفظ الأبدان، وحفظ اللسان، وحفظ الأيمان، ثم مرَّ معها على الترتيب، فما ذكره هناك مُستوفَى، لم يُعِدْ منه هنا إلا أصله، وما بقي هناك في أصل من الأصول الستّة كمّلهُ هنا، ولمّا ذكر فيما تقدّم في أول السورة حُكْم الأموال باعتبار المِلك، ولم يتكلم على ما يحلّ منها وما يحرم، تكلم هنا على ذلك، فقال‏:‏

‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ الله يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ‏}‏

قلت‏:‏ إضافة ‏{‏بهيمة الأنعام‏}‏‏:‏ للبيان، كثوب خزّ، إي‏:‏ البهيمة من الإنعام، و‏{‏غير مُحِلِّي الصيد‏}‏‏:‏ حال، قال الأخفش‏:‏ من فاعل ‏{‏أوفوا‏}‏، وفيه معنى النّهي، وقال الكسائي‏:‏ من ضمير ‏{‏لكم‏}‏؛ كما تقول‏:‏ أُحِلّ لكم الطعام غير مُفسِدين فيه، فإن قُلتَ‏:‏ الحال قيد لعامِلها، والحِلِّيَّة غير خاصّة بوقت حُرمَة الصيد‏؟‏ قلت‏:‏ لمّا كانت الحاجة إليها في ذلك الوقت أكثر، خصّ الحِلِّيَّة به ليكون أدعى للشكر، ويؤخَذ عموم الحِلِّيَّة من سورة الحج‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏أُحِلَّت لكم بهيمة الأنعام‏}‏ أي‏:‏ الأنعام كلها، وهي الإبل والبقر والغنم، ‏{‏إلا ما يُتلَى عليكم‏}‏ بعدُ في قوله‏:‏ ‏{‏حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏المَائدة‏:‏ 3‏]‏ الآية، حال كونكم ‏{‏غير مُحِلِّي الصيد‏}‏ في حال الإحرام، ومعنى الآية في الجملة‏:‏ أُحِلَّت الأنعام كلها إلا ما يُتلى عليكم من الميتة وأخواتها، لكن الصيد في حال الإحرام حرام عليكم، ‏{‏إن الله يحكم ما يريد‏}‏ من تحليل أو تحريم‏.‏

الإشارة‏:‏ يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود التي عقدتموها على نفوسكم في حال سيركم إلى حضرة ربَكم، من مجاهدة ومُكابَدة، فمَن عقد عقدة مع ربّه فلا يحلّها، فإن النفس إذا استأنست بحلّ العقود لم ترتبط بحال، ولعبت بصاحبها كيف شاءت، وأوفوا بالعقود التي عقدتموها مع أشياخكمْ بالاستماع والاتّباع إلى مماتكم، وأوفوا بالعقود التي عقدها عليكم الحق تعالى، من القيام بوظائف العبودية، ودوام مشاهدة عظمة الربوبية، فإن أوفيتم بذلك، فقد أُحِلَّت لكم الأشياء كلها تتصرّفون فيها بهِمّتكم؛ لأنكم إذا كنتم مع المُكَوِّن كانت الأكوان معكم‏.‏ إلا ما يُتلَى عليكم مما ليس من مقدوركم مما أحاطت به أسوار الأقدار، «فإن سوابق الهِمَم لا تخرق أسوار الأقدار»، غير مُتَعَرِّضين لشهود السّوى وأنتم في حرم حضرة المولى، والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آَمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏2‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ الشعائر‏:‏ جمع شَعيرة، وهي اسم ما أشعر، أي‏:‏ جعل علامة على مناسك الحج ومواقفة و‏{‏لا يجرمنّكم‏}‏ أي‏:‏ يحملنّكم، أو يكسبنّكم، يُقال‏:‏ جرم فلان فلانًا هذا الأمر، إذا أكسبه إيّاه وحمله عليه‏.‏ والشنآن‏:‏ هو البغض والحقد، يقال‏:‏ بفتح النون وإسكانها، و‏{‏أن صدّوكم‏}‏ مفعول من أجله، و‏{‏أن تعتدوا‏}‏ مفعول ثانٍ ليحرمنّكم‏.‏ ومَن قرأ‏:‏ ‏(‏إن صدّوكم‏)‏، بالكسر فشرط، أغنى عن جوابه‏:‏ ‏{‏لا يجرمنّكم‏}‏‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تُحِلّوا شعائر الله‏}‏ أي‏:‏ لا تستحلّوا شيئًا من ترك المناسك، وذلك أن الأنصار كانوا لا يسعون بين الصفا والمروة، وكان أهل مكة لا يخرجون إلى عرفات، وكان أهل اليمن يرجعون من عرفات، فأمرهم الله ألاّ يتركوا شيئًا من المناسك، أي‏:‏ لا تحلّوا ترك شعائر الله ‏{‏ولا‏}‏ تحلّوا ‏{‏الشهر الحرام‏}‏ بالقتال أو السَّبْي، وهذا قبل النسخ، ‏{‏ولا‏}‏ تحلّوا ‏{‏الهَدْيَ‏}‏، أي‏:‏ ما أُهْدِيَ إلى الكعبة، فلا تتعرّضوا له ولو من كافر، ‏{‏ولا‏}‏ تحلّوا ‏{‏القلائد‏}‏ أي‏:‏ ذوات القلائد، وهي الهَدْي المقلّدة، وعطفها على الهَدْي للاختصاص؛ فإنها أشرف الهَدْي، أي لا تتعرضوا للهَدْي مطلقًا‏.‏ والقلائد جمع قِلادة، وهي‏:‏ ما قُلِّدَ به الهَدْي من نَعْل أو لِحاء الشجر، أو غيرهما، ليُعلَم به أنه هَدْي فلا يُتَعَرَّض له، ‏{‏ولا‏}‏ تحلّوا ‏{‏آمِّين‏}‏ أي‏:‏ قاصِدين البيت الحرام، أي‏:‏ قاصدين لزيارته، ‏{‏يبتغون فضلاً من ربّهم ورضوانًا‏}‏ أي‏:‏ يطلبون رزقًا بالتجارة التي قصدوها، ورضوانًا بزعمهم، لأنهم كانوا كُفّارًا‏.‏

وذلك، أن الآية نزلت في الحُطَم بن ضُبَيْعة، وذلك أنه أتى المدينة، فخلَّف خَيْلَه خَارجَ المدِينةَ، ودخل وحْدَه إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إلامَ تدعُو النَّاس إليه‏؟‏ فقال له‏:‏ «إلى شَهادة أنْ لا إله إلا اللهُ وإقَام الصَّلاةِ وإيتَاءِ الزَّكاة» فقال‏:‏ حَسَنٌ، إلاّ أن لي أُمَرَاءَ لا أقطعُ أمْرًا دُونَهُمْ، ولَعَلَّي أُسْلِم، فخرج وغار على سَرْحِ المدينة فاسْتَاقَهُ، فما كان في العام المقبل خرج حاجًا مع أهل اليمامة، ومعه تجارة عظيمة، وقد قلّد الهَدْيَ، فقال المسلمون للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ هذا الحُطَمُ قد خرج حاجًا فخَلِّ بيننا وبينه‏؟‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم «إنه قلّد الهَدْيَ»، فقالوا يا رسول الله‏:‏ هذا شيء كنّا نفعله في الجاهلية أي تقيه، فأبى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ كان المشركون يحجّون ويهدون، فأرادَ المسلمون أن يُغِيرُوا عليهم، فنهاهم الله تعالى بالآية‏.‏

‏{‏وإذا حللتم‏}‏ من الحج والعمرة ‏{‏فاصطادوا‏}‏، أمْر إباحة؛ لأنه وقع بعد الحَظْر، ‏{‏ولا يجرمنّكم‏}‏ أي‏:‏ لا يحملنّكم، أو لا يكسبنّكم ‏{‏شنآن قوم‏}‏ أي‏:‏ شدّة بغضكم لهم لأجل ‏{‏أن صدّوكم عن المسجد الحرام‏}‏ عام الحديبية ‏{‏أن تعتدوا‏}‏ بالانتقام منهم؛ بأن تحلّوا هداياهم وتتعرّضوا لهم في الحرم‏.‏

قال ابن جزيّ‏:‏ نزلت عام الفتح حين ظفر المسلمون بأهل مكة، فأردوا أن يستأصلوهم بالقتل؛ لأنهم كانوا قد صدّوهم عن المسجد الحرام عام الحديبية، فنهاهم الله عن قتلهم؛ لأن الله عَلِمَ أنهم يؤمنون‏.‏ ه‏.‏ ثم نسخ ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبَة‏:‏ 5‏]‏‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وتعاونوا على البرّ والتقوى‏}‏ كالعفو، والإغضاء، ومتابعة الأمر، ومُجانَبة الهوى‏.‏ وقال ابن جزيّ‏:‏ وصية عامّة، والفرق بين البرّ والتقوى؛ أن البرّ عامّ في الواجبات والمندوبات، فالبرّ أعمّ من التقوى‏.‏ ه‏.‏ ‏{‏ولا تعاونوا على الإثم والعدوان‏}‏ كالتشفّي والانتقام‏.‏ قال ابن جُزَيّ‏:‏ الإثم‏:‏ كل ذنب بين الله وعبده، والعدوان‏:‏ على الناس‏.‏ ه‏.‏ ‏{‏واتقوا الله إن الله شديد العقاب‏}‏؛ فانتقامه أشد‏.‏

الإشارة‏:‏ قد أمر الحق جلّ جلاله بتعظيم عباده، وحِفظ حُرمتهم كيفما كانوا، «فالخلق كلّهم عِيال الله، وأحبّ الخلقِ إلى اللهِ أنفعُهُمْ لِعِياله»، فيجب على العبد كفّ أذاه عنهم وحمل الجفا منهم، وألاَّ ينتقم لنفسه ممَّن آذاه منهم، ولا يحمله ما أصابه منهم على أن يعتدي عليهم ولو بالدعاء، بل إن وسَع الله صدره بالمعرفة قابلهم بالإحسان، ودعا لعدوّه بصلاح حاله؛ حتى يأخذ الله بيده، وهذا مقام الصّديقيَة العظمى والولاية الكبرى، وهذا غاية البرّ والتقوى الذي أمر الله تعالى بالتعاون عليه، والاجتماع إليه، دون الاجتماع على الإثم والعدوان، وهو الانتصار للنفس والانتقام من الأعداء، فإن هذا من شأن العوامّ، الذين هم في طرف مقام الإسلام‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وَمَآ أَكَلَ السبع إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام ذلكم فِسْقٌ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏حُرِّمَت عليكم الميتة‏}‏ أي‏:‏ ما ماتت حَتْفَ أنفها بلا ذكاه، ‏{‏والدم‏}‏ المسفوح، أي‏:‏ المهروق، وكانت الجاهلية يصبّونه في الأمعاء، ويشوونها، ورُخِّصَ في الباقي في العروق بعد التذكية، ‏{‏ولحم الخنزير‏}‏، وكذا شحمه وسائر أجزائه المتصلة، بخلاف الشعر المجزوّ، ‏{‏وما أُهَلَّ لغير الله به‏}‏ أي‏:‏ رفع الصوت عليه عند ذبحه بغير الله، كقولهم‏:‏ باسم اللاّت والعزّى، وكذا ما تُرِكَ عليه اسم الله عَمْدًا، عند مالك ‏{‏والمنخنقة‏}‏ بحبل وشبهه حتى ماتت، ‏{‏والموقوذة‏}‏ أي‏:‏ المضروبة بعصا أو بحجر أو شبهه، من‏:‏ وقذته وقذًا‏:‏ ضربته، ‏{‏والمتردية‏}‏ أي‏:‏ الساقطة من جبل أو في بئر وشبهه فماتت، ‏{‏والنطيحة‏}‏ التي نطحتها أخرى فماتت، فإن لم تمت؛ فإن كان في المصران الأعلى فكذلك، لا في الأسفل أو الكرش‏.‏

‏{‏وما أكل السّبع‏}‏ أي‏:‏ أكل بعضه وأنفذ مقتله، والسبّع‏:‏ كل حيوان مفترس كالذئب والأسد والنّمر والثعلب والنّمس والعُقاب والنّسر ‏{‏إلاّ ما ذكّيتم‏}‏ أي‏:‏ إلا ما أدركتم ذكاته وفيه حياة مستقرة من ذلك‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏ وقال ابن جُزَيّ‏:‏ قيل‏:‏ إنه استثناء منقطع، وذلك إذا أُريد بالمنخنقة وأخواتها‏:‏ ما مات من ذلك بالخنق وما بعده، أي‏:‏ حُرِّمَت عليكم هذه الأشياء، لكن ما ذكَّيتم من غيرها فهو حلال، وهذا ضعيف، وقيل‏:‏ إنه استثناء متصل، وذلك إن أُريد بالمنخنقة وأخواتها ما أصابته تلك الأسباب وأدركت حياته‏.‏ والمعنى‏:‏ إلا ما أدركتم حياته من هذه الأشياء، فهو حلال، واختلف أهل هذا القول؛ هل يُشتَرَط أن يكون لم تنفذ مقاتله، أم لا‏؟‏ فالأئمة كلهم على عدم الاشتراط إلا مالكًا رحمه الله، وأما مَن لم تُشرِف على الموت من هذه الأسباب، فذكاتها جائزة باتفاق‏.‏ ه‏.‏

‏{‏و‏}‏ حُرِّمَ عليكم أيضًا‏:‏ ‏{‏ما ذُبِحَ على النُّصُب‏}‏، وهي أحجار كانت منصوبة حول البيت، يذبحون عليها ويعدُّون ذلك قُرْبَة، وليست بالأصنام؛ لأن الأصنام مُصَوّرة، والنُّصُب غير مُصَوَّرة، وقيل‏:‏ ‏{‏على‏}‏ بمعنى اللام، أي‏:‏ وما ذُبِحَ للنُّصُب، والمراد كلّ ما ذُبحَ لغير الله‏.‏

‏{‏وأن تستقسموا بالأزلام‏}‏ أي‏:‏ تطلبوا ما قسم لكم في الأزل من المقادير بالأزلام، جمع زلم بضم الزاي وفتحها وهي الأقداح على قدر السهام‏.‏ وكانت في الجاهلية ثلاثة، قد كُتب على أحدها‏:‏ افعل، على الآخر‏:‏ لا تعفل، وعلى الثالث‏:‏ مهمل، فإذا أراد الإنسان أن يعمل أمرًا جعلها في خريطة، وأدخل يده وأخرج أحدها، فإن خرج له الذي فيه «افعل»؛ فعل ما أراد، وإن خرج الذي فيه «لا تفعل»، تركه‏.‏

وإن خرج المهمل أعاد الضرب، ويقاس عليه كل ما يدخل في علم الغيب، كالقريعة والحظ والنصبة والكهانة، وشبهها‏.‏

‏{‏ذلكم فسق‏}‏، الإشارة إلى المحرمات المذكورة، أو إلى الاستقسام بالأزلام، وإنما كان فسقًا؛ لأنه دخول في علم الغيب الذي انفرد الله به، وفيه تجسس على سر الملك، وهو حرام، ولا يعارض ما ثبت جوازه من القرعة، في أمور مخصوصة كتمييز الأنصبة في القسمة، وقد كان عليه الصلاة والسلام يقترع بين نسائه «، وغير ذلك مما تفيد تطييب القلوب، دون الاطلاع على علم الغيوب‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ حرمت عليكم يا معشر المريدين طلب الحظوظ والشهوات، وما تموت به قلوبكم من الانهماك في الغفلات، وتناول ما أعطِيكم لغير وجه الله، وقبضتموه من غير يد الله، بأن نظرتم حين قبضه إلى الواسطة، وغفلتم عن المعطي حقيقة، فمقتضى شريعة الخواص‏:‏ إخراجه عن الملك، وحرمان النفس من الانتفاع به، كما وقع لبعض الأولياء، ولا تتناولوا من الطعام إلا ما ذكيتموه بأن شهدتم فيه المنعم دون الوقوف مع النعمة، ونزلتم إليه بالإذن، دون قصد الشهوة والمتعة، وهذا يحتاج إلى تيقظ كبير ومراقبة قوية‏.‏ والله يتجاوز عن أمثالنا بحلمه وكرمه‏.‏ آمين‏.‏

ولمَا حرم الله تعالى هذه الاشياء حصل للمشركين الإياس من موافقة المسلمين لهم في دينهم، فلذلك ذكره الحق تعالى بإثر تحريمها، فقال‏:‏

‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشون اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ يقول الحقّ جلَ جلاله‏:‏ ‏{‏اليوم‏}‏ الذي أنتم فيه، وهو يوم الجمعة، ويوم عرفة في حجة الوداع، ‏{‏يئس الذين كفروا من دينكم‏}‏ أن يبطلوه، أو يظهروا عليه بحصول المباينة لهم في أمورهم كلها، ولظهور الإسلام فيه وكثرة المسلمين، قيل‏:‏ إنه وقف معه صلى الله عليه وسلم في هذه الحجة‏:‏ مائة ألف وأربعة عشر ألفًا، ويحتمل أن يريد باليوم الزمان الحاضر، وما يتصل به من الأزمنة الآتية، ‏{‏فلا تخشوهم‏}‏ أن يظهروا عليكم، ‏{‏واخشون‏}‏ وحدي؛ فأمرهم بيدي‏.‏

‏{‏اليوم أكملتُ لكم دينكم‏}‏ بالنصر والإظهار على الأديان كلها، أو بالتنصيص على قواعد العقائد، والتوقيف على أحوال الشرائع وقوانين الاجتهاد، ‏{‏وأتممتُ عليكم نعمتي‏}‏ بالهداية والتوفيق، أو بإكمال الدين، وبالفتح والتمكين، بهدم منار الكفر، ومحو علل الملحدين، ‏{‏ورضيتُ لكم الإسلام دينًا‏}‏ أي‏:‏ اخترته لكم من بين الأديان، الذي لا نرتضي غيره، ولا نقبل سواه‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا حصل المريد على أسرار التوحيد، وخاض بحار التفريد، وذاق حلاوة أسرار المعاني، وغاب عن شهود حس الأواني، وحصل له الرسوخ والتمكين في ذلك، أيِسَ منه الشيطان وسائر القواطع، فلا يخشى أحدًا إلا الله، ولا يركن إلى شيء سواه، وأمِنَ من الرجوع في الغالب، إلا لأمر غالب،

‏{‏وَاللهً غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ‏}‏ ‏[‏يُوسُف‏:‏ 21‏]‏‏.‏ ولذلك قال بعضهم‏:‏ ‏(‏والله ما رجع من رجع إلا من الطريق، وأما من وصل فلا يرجع‏)‏‏.‏

والوصول هو التمكين فيما ذكرنا، فإذا حصل على كمال المعرفة، ووقف على عرفة المعارف، فقد كمل دينه واستقام أمره، وظهرت أنواره، وتحققت أسراره، وما بقي إلا الترقي في الأسرار أبدًا سرمدًا، والسير في المقامات كسير الشمس في المنازل، ينتقل فيها من مقام إلى مقام، بحسب ما يبرز من عنصر القدرة، فتارة يبرز معه ما يوجب الخوف، وتارة ما يوجب الرجاء، وتارة ما يوجب الرضا والتسليم، وتارة ما يوجب التوكل، وهكذا يتلون مع كل مقام ويقوم بحقة، ولا يقف مع مقام ولا مع حال، لأنه خليفة الله في أرضه، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏كُلَّ يَوْمِ هُوَ في شَأْنٍ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 29‏]‏، هذا هو التلوين بعد التمكين‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ فَمَنِ اضطر فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏

قال البيضاوي‏:‏ هو متصل بذكر المحرمات، وما بينهما اعتراض مما يوجب التجنب عنها، وهو أن تناولها فسوق، وحرمتها من جملة الدين الكامل والنعمة التامة والإسلام المرضي‏.‏ ه‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏فمن اضطر‏}‏ إلى تناول شيء من هذه المحرمات ‏{‏في مخمصة‏}‏ أي‏:‏ مجاعة، حال كونه ‏{‏غير متجانف‏}‏ أي‏:‏ مائل للإثم وقاصد له، بأن يأكلها تلذذًا أو متجاوزًا حد الرخصة، قيل‏:‏ هو سد الرمق، وقال ابن أبي زيد‏:‏ يأكل منها ويتزود، فإن استغنى عنها طرحها‏.‏ ه‏.‏ فإن تناولها للضرورة ‏{‏فإن الله غفور‏}‏ له ‏{‏رحيم‏}‏ به؛ حيث أباحها له في تلك الحالة‏.‏

الإشارة‏:‏ قال بعض الحكماء‏:‏ الدنيا كلها كالميتة، لا يحل منها للذاكر إلا قدر الضرورة أكلاً وشربًا وملبسًا ومركبًا، حتى يتحقق له الوصول، فما بقي لأحد حينئٍذ ما يقول، وعلامة الوصول‏:‏ هو الاكتفاء بالله دون الاحتياج لشيء سواه، إن افتقر اغتنى في فقره، وإن ذل عز في ذله، وإن فقد وجد في فقده، وهكذا في تقلبات الأحوال لا يتضعضع ولا يتزلزل، ولو سقطت السماء على الأرض‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 5‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏4‏)‏ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ واذكروا اسم الله عَلَيْهِ واتقوا الله إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

قلت‏:‏ لم يقل ماذا أحل لنا؛ لأن ‏{‏يسألونك‏}‏ بلفظ الغيبة، وكلا الوجهين شائع في أمثاله‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يسألونك‏}‏ يا محمد عن الذي ‏{‏أُحل لهم‏}‏ من المآكل، بعد الذي حرم عليهم من الخبائث، فقل لهم‏:‏ ‏{‏أحل لكم الطيبات‏}‏ وهو عند مالك‏:‏ ما لم يدل دليل على تحريمه من كتاب ولا سنة، وعند الشافعي‏:‏ ما يستلذه الطبع السليم ولم يفّر عنه، فحرم الخنافس وشبهها، ‏{‏و‏}‏ أحل لكم صيد ‏{‏ما علّمتم من الجوارح‏}‏ أي‏:‏ الكواسب، وهي الكلاب ونحوها، مما يصطاد به ويكسب الصيد على أهله، من سباع وذوات أربع، وطير، ونحوها، حال كونكم ‏{‏مُكلبين‏}‏ أي‏:‏ معلمين لها الاصطياد، أي‏:‏ مؤدبين لها، ‏{‏تُعلمونهن مما علمكم الله‏}‏ من الحيل وصدق التأديب، فإن العلم بها إلهام من الله، أو مكتسب بالعقل الذي هو منحة من الله لابن آدم‏.‏ وحد التعليم عند ابن القاسم‏:‏ أن يفهم الجارح الإشلاء والزجر، وقيل‏:‏ الإشلاء؛ أي‏:‏ التسلط فقط، وقيل؛ الزجر فقط، وقيل‏:‏ أن يجيب إذا دُعي‏.‏

‏{‏فكلوا مما أمسكن عليكم‏}‏ ولم يأكل منه، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «وإن أكَلَ، فلاَ تَأكُل؛ فَإنَّما أمسكَ عَلَى نَفسِه» وهو مذهب الشافعي، وقال مالك‏:‏ يؤكل مطلقًا لما في بعض الأحاديث‏:‏ «وإن أكلَ فكُل»، وقال بعضهم‏:‏ لا يشترط ذلك في سَباع الطير؛ لأن تأديبها إلى هذا الحد متعذر‏.‏

‏{‏واذكروا اسم الله عليه‏}‏ أي‏:‏ على ما علمتم عند إرساله، ولو لم ير المرسل عليه، وكذا عند الرمي المحدد ونحوه، فإن سمي على شيء مُعين ووجد غيره لم يؤكل، أو التبس مع غيره، وإن سمي على ما وجد أكل الجميع، ولا بد من نية الذكاة عند الإرسال أو الرمي، واختلف في حكم التسمية، فقال الظاهرية‏:‏ أنها واجبة مطلقًا، فإن تركت عمدًا أو سهوًا لم تؤكل عندهم، وقال الشافعي‏:‏ مستحبة، حملاً للأمر على الندب، فإن تركت عمدًا أو سهوًا أكلت عنده‏.‏

وجعل بعضُهم الضمير في ‏{‏عليه‏}‏، عائدًا على الأكل، فليس فيها على هذا أمر بالتسمية على الصيد، ومذهب مالك‏:‏ أنه إن تركت التسمية عمدًا لم تؤكل، وإن تركت سهوًا أكلت، فهي عنده واجبة بالذكر ساقطة بالنسيان، وهذا الخلاف جار في الذكاة كلها‏.‏

‏{‏واتقوا الله‏}‏ في اجتناب محرماته، ‏{‏إن الله سريع الحساب‏}‏، فيؤاخذكم على ما جلّ ودق‏.‏

‏{‏اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أُتوا الكتاب حل لكم‏}‏ فيتناول الذبائح وغيرها، ويعم أهل الكتاب اليهود والنصارى، واستثنى عليٌّ كرم الله وجهه نصارى بني تغلب، وقال‏:‏ ‏(‏ليسوا على النصرانية، ولم يأخذوا منها إلا شرب الخمر‏)‏‏.‏

ولا يلحق بهم المجوس في ذلك، وإن ألحقوا بهم في الجزية، لقوله صلى الله عليه وسلم «سُنوا بهم سُنةَ أهلِ الكِتاب، غير ألا تنكحوا نساءهم، ولا تأكلوا ذبائحهم» وكذلك المرتد مطلقًا لا تؤكل ذكاته‏.‏

قال ابن جزي‏:‏ وأما الطعام، فهو على ثلاثة أقسام‏:‏ أحدها‏:‏ الذبائح، قد اتفق العلماء على أنها مرادة في الآية، فأجازوا أكل ذبائح اليهود والنصارى، واختلفوا فيما هو محرم عليهم في دينهم، على ثلاثة أقوال‏:‏ الجواز، والمنع، والكراهة، وهو مبني على‏:‏ هل هو من طعامهم أم لا‏؟‏ فإن أريد بطعامهم ما ذبحوه، جازت، وإن أريد ما يحل لهم، مُنع والكراهة توسط بين القولين‏.‏ الثاني‏:‏ ما لا محاولة لهم فيه، كالقمح والفاكهة، فهو جائر لنا اتفاقًا‏.‏ والثالث‏:‏ ما فيه محاولة كالخبز وتعصير الزيت وعقد الجبن، وشبه ذلك مما يمكن استعمال النجاسة فيه، فمنعه ابن عباس؛ لأنه رأى أن طعامهم هو الذبائح خاصة، وأجازه الجمهور‏.‏ لأنه رأوه داخلاً في طعامهم، وهذا إذا كان استعمال النجاسة فيه محتملاً، أما إذا تحققنا استعمال النجاسة فيه؛ كالخمر والخنزير والميتة، فلا يجوز أصلاً، وقد صنف الطرطوشي في تحريم جبن النصارى، وقال‏:‏ إنه يُنجس البائع والمشتري والآلة؛ لأنهم يعقدونه على أنفحه الميتة‏.‏ ه‏.‏

‏{‏وطعامكم حِلٌّ لهم‏}‏، فلا بأس أن تُطعموهم من طعامكم، وتبيعوه لهم، وأما ما حرم عليهم، فلا يجوز بيعه منهم‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ يسألونك أيها العارف الرباني ماذ أحل للفقراء من الأعمال والأحوال، قل لهم‏:‏ أحل لكم الطيبات، أي‏:‏ الخالص من الأعمال، والصافي من الأحوال، والتلذذ بحلاوة المشاهدة والمكالمة، وما اصطادت لكم أنفسكم من العلوم اللدنية والأسرار القدسية، بقدر تزكيتها وتربيتها، فكلوا مما أمسكن عليكم، أي‏:‏ تمتعوا بما أتت به لكم من أبكار الحِكَم وعرائس الحقائق، فإن أتت شيء من علوم الحس، فاذكروا اسم الله عليه ينقلب معاني، واتقوا الله أن تقفوا مع شيء سواه، ‏{‏إن الله سريع الحساب‏}‏؛ فيحاسبكم على الخواطر والطوارق إن لم تعرفوا فيها‏.‏ اليوم أحل لكم الطيبات، أي‏:‏ حين دخلتم بلاد المعاني ورسختم فيها، أحل لكم التمتع بالمشاهدات والمناجات، وطعام العلوم الظاهرة حِلٌّ لكم تتوسعون بها، وطعامكم حل لهم، أي‏:‏ وتذكيركم بما يقدرون عليه حِلٌّ لهم؛ لأن العارف الكامل يُسير كل واحد على سيره، ويتلون معه بلونه، يُقره في بلده ويحوشه إلى ربه‏.‏ نفعنا الله بذكره‏.‏ آمين‏.‏

ثم تكلم على ما بقي من حفظ الأنساب، وهو جواز نكاح الكتابية؛ إذ لم يتكلم عليه في سورة النساء، فقال‏:‏

‏{‏‏.‏

‏.‏‏.‏ والمحصنات مِنَ المؤمنات والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ متخذي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ وأحل لكم ‏{‏المحصنات‏}‏ أي‏:‏ الحرائر ‏{‏من المؤمنات‏}‏ دون الإماء، إلا لخوف العنت، أو العفيفات دون البغايا، فإن نكاحها مكروه، ‏{‏و‏}‏ أحل لكم ‏{‏المحصنات‏}‏ أي‏:‏ الحرائر ‏{‏من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم‏}‏، فأحل الله نكاح اليهودية والنصرانية الحُرتين دون إمائهم، ‏{‏إذا أتيتموهن أجورهن‏}‏ أي‏:‏ أعطيتموهن مهورهن‏.‏ فلا يجوز نكاح الكتابية إلا بصداق شرعي‏.‏ حال كونكم ‏{‏محصنين‏}‏، أي‏:‏ متعففيين عن الزنى بنكاحها، ‏{‏غير مسافحين‏}‏ أي‏:‏ مجاهرين بالزنى، ‏{‏ولا متخذي أخدان‏}‏ أي‏:‏ أصحاب تُسرون معهن بالزنى، والخدن‏:‏ الصاحب، يقع على الذكر والأنثى‏.‏ والمعنى‏:‏ أحللنا لكم نكاح الكتابيات، توسعة عليكم لتتعففوا عن الزنى سرًّا وجهرًا‏.‏

ولما نزل إباحة الكتابيات قال بعض الناس‏:‏ كيف أتزوج من ليس على ديني‏؟‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏ومن يكفر بالإيمان‏}‏ أي‏:‏ بشرائع الإيمان ‏{‏فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين‏}‏، ومن الكفر به إنكاره والامتناع منه‏.‏

الإشارة‏:‏ قد تقدم أن علوم الحقائق أبكار، لأنها عرائس مخدّرة، مهرها النفوس، وما سواها من العلوم ثيبات وإماء؛ لرخص مهرها، فإذا اتصل العارف بعلوم الحقائق ورسخ فيها؛ أحل له أن ينكح المحصنات من علوم الطريقة وهي مبادىء التصوف، أي‏:‏ التفنن فيها مع أهلها على وجه التركيز أو التعليم، والمحصنات من علوم الشريعة إذا أعطاها مهرها؛ من الإخلاص وقصد التوسع بها وتعليمها لأهلها، وهذه العلوم كلها مشروعة، والمشتغل بها متوجه إلى الله تعالى، ‏{‏قّدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 60‏]‏، فمن كفر بها فقد حبط عمله، وهو عند الله من الخاسرين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏إذا قمتم‏}‏‏:‏ أردتم القيام، كقوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قَرَأْتَ الْقٌرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ‏}‏ ‏[‏النّحل‏:‏ 98‏]‏، حذف الإرادة للإيجاز، وللتنبيه على أن من أراد العبادة ينبغي أن يبادر إليها، بحيث لا ينفك الفعل عن الإرادة، وقوله‏:‏ ‏{‏برؤوسكم‏}‏ الباء للإلصاق، تقول‏:‏ أمسكتُ بثوب زيد، أي‏:‏ ألصقت يدي به، أي‏:‏ ألصقوا المسح برؤوسكم، أو للتبعيض، وهذا سبب الخلاف في مسحه كله أو بعضه، فقال مالك‏:‏ واجب كله، وقال الشافعي‏:‏ أقل ما يقع عليه اسم الرأس، ولو قلّ‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ الربع‏.‏

‏{‏وأرجلكم‏}‏، مَن نَصَبَ عطف على الوجه، ومن خفض فعلى الجوار، وفائدته‏:‏ التنبيه على قلة صبَّ الماء، حتى يكون غسلاً يقرب من المسح‏.‏ قاله البيضاوي‏:‏ ورده في المُغني فقال‏:‏ الجوار يكون في النعت قليلاً، وفي التوكيد نادرًا، ولا يكون في النسق؛ لأن العاطف يمنع من التجاور، وقال الزمخشري‏:‏ لمّا كانت الأرجل بين الأعضاء الثلاثة مغسولات، تغسل بصب الماء عليها، كان مظنة الإسراف المذموم شرعًا، فعطف على الممسوح لا لتمسح، ولكن لينبه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها، وجيء فيهما بالغاية إماطة لظن من يظن أنها ممسوحة؛ لأن المسح لم يضرب له غاية في الشريعة‏.‏ ه‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ إذا أردتم القيام ‏{‏إلى الصلاة‏}‏ وأنتم محدثون ‏{‏فاغسلوا وجوهكم‏}‏ من منابت شعر الرأس المعتاد إلى الذقن، ومن الأذن إلى الأذن، ‏{‏وأيديكم إلى المرافق‏}‏ أي‏:‏ معها، ‏{‏وامسحوا برؤوسكم‏}‏ أي‏:‏ جميعها أو بعضها على خلاف، ‏{‏وأرجلكم إلى الكعبين‏}‏ العظمين الناتئين في مفصلي الساقين، فهذه أربعة فرائض، وبقيت النية لقوله‏:‏ ‏{‏وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللهَ مُخْلِصِينَ‏}‏ ‏[‏البَيّنَة‏:‏ 5‏]‏، ولقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إنما الأعمال بالنيات» والدلك؛ إذًا لا يسمى غسلاً إلا به، وإلا كان غمسًا، والفور؛ لأن العبادة إذا لم تتصل كانت عبثًا‏.‏ ولمّا عطفت بالواو، وهي لا ترتب، علمنا أن الترتيب سنة‏.‏

‏{‏وإن كنتم مرضى‏}‏ لم تقدروا على الماء ‏{‏أو على سفر‏}‏ ولم تجدوه، أو في الحضر؛ و‏{‏جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء‏}‏ بالجماع أو غيره ‏{‏ولم تجدوا ماء فتيموا صعيدًا طيبًا فامسحوا بوجوهكم‏}‏ أي‏:‏ جميعه ‏{‏وأيديكم منه‏}‏، وقيد الحضر بفقد الماء دون السفر؛ لأن السفر مظنة إعوازه، فالآية نص في تيمم الحاضر الصحيح للصلوات كلها‏.‏ قال البيضاوي‏:‏ وإنما كرره، يعني مع ما في النساء ليتصل الكلام في بيان أنواع الطهارة‏.‏ ه‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج‏}‏ حتى يكلفكم بالطهارة في المرض أو الفقد من غير انتقال للتيميم، ‏{‏ولكن يريد ليطهركم‏}‏ أي‏:‏ ينظفكم بالماء أو بدله، أو يطهركم من الذنوب، فإن الذنوب تذهب مع صب الماء في كل عضو، كما في الحديث، ‏{‏وليتم نعمته عليكم‏}‏ بشرعه، ما هو مَطهَرَةٌ لأبدانكم، ومَكفَرَة لذنوبكم ‏{‏ولعلكم تشكرون‏}‏ نعمه فيزيدكم من فضله‏.‏

الإشارة‏:‏ كما أمر الحقّ جلّ جلاله بتطهير الظاهر لدخول حضرة الصلاة، التي هل محل المناجاة ومعدن المصافاة، أمر أيضًا بتطهير الباطن من لوث السهو والغفلات، فمن طهر ظاهره من الأوساخ والنجاسات، ولوّث باطنه بالوساوس والغفلات، كان بعيدًا من حضرة الصلاة؛ إذ لا عبرة بحركة الأبدان، وإنما المطلوب حضور الجنان‏.‏

قال القشيري‏:‏ وكما أن للظاهر طهارةً فللسرائر طهارة، فطهارة الظاهر بماء السماء، أي‏:‏ المطر، وطهارة القلوب بماء الندم والخجل، ثم بماء الحياء والوجل، ويجب غسلُ الوجه عند القيام إلى الصلاة، ويجب في بيان الإشارة صيانة الوجه عن التبذل للأشكال عن طلب خسائس الأغراض، وكما يجب مسحُ الرأس، يجب صونه عن التواضع لكل أحد أي‏:‏ في طلب الحظوظ والأعراض وكما يجب غسل الرجلين في الطهارة الظاهرة، يجب صونها في الطهارة الباطنة عن التنقل فيما لا يجوز‏.‏ ه‏.‏

وقال عند قوله‏:‏ ‏{‏وإن كنتم جُنبًا فاطهروا‏}‏‏:‏ وكما يجب طهارة الأعلى، أي‏:‏ الظاهر، فيقتضي غسل جميع البدن، فقد يقع للمريد فترة توجب عليه الاستقصاء في الطهارة الباطنية فذلك إذا لم يجد المريد مَن يفيض عليه صَوبَ همته، ويغسله ببركات إشارته، اشتغل بما يُنشر له من اقتفاء آثارهم، والاسترواح إلى ما يجد من سالف سِيرتهم، ومأثور حكياتهم‏.‏ ه‏.‏

قلت‏:‏ محصل كلامه أن من سقط على شيخ التربية، كان كمن وجد الماء فاستعمل الطهارة الأصلية الحقيقية، ومن لم يسقط على شيخ التربية، كان كالمستعمل للطهارة الفرعية المجازية؛ وهي التيمم، وإلى ذلك أشار الغزالي، لما سقط على الشيخ، ولامه ابن العربي الفقيه على التجريد، فقال‏:‏

قّد تَيَمَّمت بالصَّعِيدِ زَمَانًا *** والآن قّد ظَفِرتَ بالمَاء

مَن سَرَى مطبقَ الجُفُونِ وأضحى *** فَاتِحًا لا يردُّها للعَمَاء

ثم قال‏:‏ لمَّا طَلَعَ قمرُ السَّعَادةِ في ملك الإرَادَة وأشرقت شمسُ الوُصوُلِ على أُفقِ الأُصُول‏:‏

تَرَكتُ هَوَى لَيلَى وسُعدَى بمعزلٍ *** ومِلتُ إلى عَليَاءِ أول مَنزلِ

فنادَتني الأوطانُ أهلاً ومرحَبًا *** إلا أيها السَّارِي رُوَيدَكَ فانزِلِ

غَزَلْتُ لهم غَزلاً رقِيقًا فلم أجِد *** لِغزلِي نَسَّاجًا فَكسَّرتُ مِغزَلِي

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏7‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏واذكروا نعمة الله عليكم‏}‏ بالهداية والعز والنصر، ‏{‏و‏}‏ اذكروا ‏{‏ميثاقه الذي واثقكم به‏}‏ حين بايعتم نبيه في بيعة العقبة وبيعة الرضوان على الجهاد وإظهار الدين، وعلى السمع والطاعة المنشط والمكره، حين ‏{‏قلتم‏}‏ له‏:‏ ‏{‏سمعنا وأطعنا‏}‏ فيما تأمرنا به في عسرنا ويسرنا، في منشطنا ومكرهنا، ‏{‏واتقوا الله‏}‏ في نقض العهود، ‏{‏إن الله عليكم بذات الصدور‏}‏ أي‏:‏ خفياتها، فيجازيكم عليها، فضلاً عن جليات أعمالكم، والمقصود‏:‏ الترغيب في الجهاد الذي هو من كمال الدين‏.‏

الإشارة‏:‏ يقال للفقراء الذين مّن الله عليهم بصحبة شيوخ التربية، وأخذوا عنهم العهد ألا يخالفوهم‏:‏ اذكروا نعمة الله عليكم، حيث يسَّر لكم من يُسَيّركم إلى حضرة ربكم، ويعرفكم به، وغيركم يقول‏:‏ إنه معدوم، أو خفي لا يعرفه أحد، وهذا الكنز الذي سقطتم عليه، قلَّ من وجده، واذكروا أيضًا ميثاقه الذي واثقه عليكم ألا تخالفوهم، ولو أدى الأمر إلى حتف أنفكم‏.‏

كان شيخ شيوخنا سيدي العربي بن عبد الله، يقول‏:‏ الفقير الصادق، هو الذي إذا قال له شيخه‏:‏ ادخل في عين الإبرة، يقوم مبادرًا يُحاول ذلك، ولا يتردد‏.‏ وقال أيضًا‏:‏ ‏(‏صاحبي هو الذي نقتله بشعرة‏)‏، وقد تقرر أن من قال لشيخه‏:‏ لِمَ، لا يفلح، وهذا أمر مقرر في علم التربية؛ كما في قضية الخضر مع سيدنا موسى عليه السلام‏.‏ واتقوا الله في اعتقاد مخالفتهم سرًا؛ ‏{‏إن الله عليم بذات الصدور‏}‏ فإن الاعتراض سرًا أقبح؛ لانه خيانة، فليبادر المريد بالتوبة منه ويغسله من قلبه‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 10‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏8‏)‏ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ‏(‏9‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ‏(‏10‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏وعد‏}‏‏:‏ يتعدى إلى مفعولين، وحذف هذا الثاني، أي‏:‏ وعدهم أجرًا عظيمًا، دل عليه الجملة بعده‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏؛ عَامٌّ أريد به خاص، وهم أولو الأمر منهم، الذين يلُون الحكم بين الناس، وما تقدم في سورة النساء باقٍ على عمومه، أي‏:‏ ‏{‏كونوا قوامين‏}‏ على من تحت حكمكم، راعين لهم؛ فإنكم مسؤولون عن رعيتكم، وكونوا مخلصين ‏{‏لله‏}‏ في قيامكم وولايتكم، ‏{‏شهداء‏}‏ على أنفسكم بالعدل، تشهدون عليها بالحق إن توجه عليها، ولا تمنعكم الرئاسة من الإنصاف في الحق، إن توجه عليكم، أو على أقاربكم وأصدقائكم، ولا على عدوكم ‏{‏ولا يجرمنكم‏}‏ أي‏:‏ ولا يحملنكم ‏{‏شنئان قوم‏}‏ أي‏:‏ شدة بغضهم لكم، ‏{‏على ألا تعدلوا‏}‏ فيهم، فتمنعوهم من حقهم، أو تزيدوا في نكالهم، تشفيًا وغيظًا‏.‏

‏{‏اعدلوا هو‏}‏ أي‏:‏ العدل ‏{‏أقرب للتقوى‏}‏، قال البيضاوي‏:‏ صرح لهم بالأمر بالعدل، وبيَّن أنه بمكان من التقوى بعد ما نهاهم عن الجور، وبيَّن أنه مقتضى الهوى‏.‏ فإذا كان هذا العدل مع الكفار، فما بالك مع المؤمنين‏؟‏‏.‏ ه‏.‏ ‏{‏واتقوا الله‏}‏؛ ولا تراقبوا سواه، ‏{‏إن الله خبير بما تعملون‏}‏ فيجازي كلاًّ على عمله، من عدل أو جور‏.‏

ثم ذكر ثواب من امتثل، فقال‏:‏ ‏{‏وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم‏}‏، وأفضل الأعمال‏:‏ العدل في الأحكام‏.‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «المُقسِطُونَ عَلَى مَنَابِرَ مِن نُورٍ يومَ القيامة»‏.‏‏.‏ الحديث، هو من السبعة الذين يظلهم الله في ظله‏.‏

ثم ذكر وعيد ضدهم، فقال‏:‏ ‏{‏والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم‏}‏ كما هو عادته تعالى، يشفع بضد الفريق الذي يذكر أولاً، وفاءً لحق الدعوة، وفيه مزيد وعد للمؤمنين وتطيب لقلوبهم‏.‏ وهذه الآية في مقابلة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللهَ يَأمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيُنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ‏}‏ ‏[‏النَّساء‏:‏ 58‏]‏ وتكميل لها‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ أمر الحق جل جلاله شيوخ التربية أن يعدلوا بين الفقراء في النظرة والإمداد، ولا يحملهم سوء آدب أحدهم، أو قلة محبته وصدقه، أن يبعده أو يمقته؛ لأن قلوبهم صافية، لا تحمل الكدر، فهم يحسنون إلى من أساء إليهم من العوام، فضلاً عن أصحابهم؛ فهم مأمورون بالتسوية بينهم في التذكير والإمداد‏.‏ والله تعالى يقسم بينهم على قدر صدقهم ومحبتهم، كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنما أنا قاسمٌ والله مُعطي» أي‏:‏ إنما أنا أُبين كيفية التوصل إلى الحق، والله تعالى يتولى إعطاء ذلك لمن يشاء من خلقه، فالأنبياء والأولياء مثلهم في بيان الطريق بالوعظ والتذكير، كمن يُبين قسمة التركة بالقلم، والحاكم هو الذي يوصل إلى كل واحد من الورثة ما كان يَنُوبُه في التركة، كذلك المذكِّر والمربي، بين المقامات، والله يعطي ذلك بحكمته وفضله‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين أمنوا اذكروا نعمة الله عليكم‏}‏ بحفظه إياكم من عدوكم؛ ‏{‏إذ هَمَّ قوم‏}‏ أي‏:‏ حين هَمَّ الكفار ‏{‏أن يبسطوا إليكم أيديهم‏}‏ بالقتل، ‏{‏فكفّ أيديهم عنكم‏}‏، ولما كانت مصيبة قتل النبي صلى الله عليه وسلم لو قُتل تَعُمُّ المؤمنين كلهم، خاطبهم جميعاً، وهي إشارة إلى ما همت به بنو قريظة، من قتله صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أتى بني قريظة، ومعه الخلفاءُ الأربعة؛ يَستَعينهم في دية رجلين مسلمين، قتلهما عَمرو بن أمية الضمري، خطأ، يظنهما مشركَين، فقالوا‏:‏ نعم يا أبا القاسم، قد آن لنا أن نعينك فاجلس حتى تطعم، فأجلسوه، وهموا بقتله، فعمد عَمرُو بن جُحَاش إلى رَحى عظيمةٍ ليَطرحَها عليه، فأمسَكَ اللهُ يده، ونزل جِبرِيلُ فأخبَرُه، فخَرَج النَّبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ولحقه أصحابُه، وهذا كان سبب قتلهم في غزوة بن قريظة‏.‏

وقيل‏:‏ نزلت في قضية غَورث، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ببطن نخلة حاصرًا لغطفان، فقال رجل منهم‏:‏ هل لكم في أن أقتل محمدًا فأفتك به‏؟‏ قالوا‏:‏ وددنا ذلك، فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم متقلدًا سيفه، فَوجد النبي صلى الله عليه وسلم نازلاً تحت شجرة قد تفرق أصحابه عنه، وقد علق سيفه في الشجرة، فسله الأعرابي، وقال‏:‏ من يمنعك مني‏؟‏ وفي رواية‏:‏ وجد النبي صلى الله عليه وسلم نائمًا فاستل السيف، فما استيقظ النبي إلا والسيف في يد الأعرابي، فقال‏:‏ من يمنعك من يا محمد‏؟‏ فقال‏:‏ «الله»، فأسقطه جبريل من يده، وأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ «وأنت، من يمنعك مني‏؟‏» فقال‏:‏ كن خير آخذ، فعفى عنه عليه الصلاة والسلام‏.‏ زاد البيضاوي‏:‏ أنه أسلم‏.‏

وقيل نزلت في صلاة الخوف حين همَّ المشركون أن يُغِيرُوا على المسلمين في الصلاة‏.‏ فالله تعالى أعلم‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏واتقوا الله‏}‏ فلا تشهدوا معه سواه، وتوكلوا عليه يكفكم أمر عدوكم، ‏{‏وعلى الله فليتوكل المؤمنون‏}‏ فإنه يكفيكم أمرهم جلبًا ودفعًا، من توكل على الله كفاه‏.‏

الإشارة‏:‏ ما جرى على النبي صلى الله عليه وسلم من قصد القتل والإذاية يجري على خواص ورثته، وهم الأولياء رضي الله عنهم والعلماء الأتقياء، فقد هَمَّ قوم بقتلهم وسجنهم وضربهم، وإجلائهم من أوطانهم، فكف الله أيديهم عنهم، وكفاهم شرهم، لمّا صححوا التوكل عليه، وأخلصوا الوجهة إليه، ومنهم من لحقه شيء من ذلك، كما لحق بعض الأنبياء عليهم السلام زيادة في شرفهم وكرامتهم، جمع الله لهم بين مقام الشهادة والصديقية، ‏{‏والله ذو الفضل العظيم‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 13‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآَمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ‏(‏12‏)‏ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ النقيب‏:‏ هو كبير القوم والمقدَّم عليهم، ينقب عن أحوالهم ويفتش عليها‏.‏ والخائنة‏:‏ إما مصدر؛ كالعاقبة واللاغية، أو اسم فاعل، والتاء للمبالغة، مثل‏:‏ رواية ونسَّابة وعلاَّمة‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل‏}‏ على أن يجاهدوا مع موسى عليه السلام وينصروه، ويلتزموا أحكام التوراة، ‏{‏وبعثنا منهم اثني عشر نقيبًا‏}‏ اخترناهم وقدمناهم، على كل سبط نقيبًا ينقب عن أحوال قومه، ويقوم بأمرهم، ويتكفل بهم فيما أمروا به‏.‏

رُوِي أن بني إسرائيل لمَّا خرجوا عن فرعون، واستقروا بأوائل الشام، أمرهم الله تعالى بالمسير إلى بيت المقدس، وهي في الأرض المقدسة، وكان يسكنها الجبابرة الكنعانيون، وقال‏:‏ إني كتبتها لكم دارًا وقرارًا، فأخرجوا إليها، وجاهدوا مَن فيها من العدو، فإني ناصركم‏.‏ وقال لموسى عليه السلام‏:‏ خذ من قومك اثني عشر نقيبًا، من كل سبط نقيبًا، يكون أمينًا وكفيلاً على قومه بالوفاء على ما أمروا به‏.‏ فاختار موسى النقباء، فسار بهم حتى إذا دنوا من أرض كنعان، وهي أريحا، بعث هؤلاء النقباء يتجسسون الأخبار، ونهاهم أن يحدثوا قومهم بما يرون، فلما قربوا من الأرض المقدسة رأوا أجرامًا عظامًا وبأسًا شديدًا، فهابوا ورجعوا وحدثوا قومهم، إلا كالب بن يوقنا من سبط يهوذا ويوشع بن نون من سبط إفراثيم بن يوسف ثم ‏{‏قالوا يا موسى إن فيها قومًا جبارين‏}‏ إلى آخر ما يأتي من قصتهم‏.‏ وأما ما ذكره الثعلبي هذا، وغيره، من قصة عوج بن عناق، فقال القسطلاني‏:‏ هي باطلة من وضع الزنادقة، فلا يجوز ذكرها في تفسير كتاب الله الصادق المصدوق‏.‏

‏{‏وقال الله‏}‏ لبني إسرائيل‏:‏ ‏{‏إني معكم‏}‏ بالنصر والمعونة؛ ‏{‏لئن أقمتم الصلاة وأتيتم الزكاة وآمنتم برُسلي‏}‏ التي أرسلتُ بعد موسى ‏{‏وعزرتموهم‏}‏ أي‏:‏ نصرتموهم وقويتموهم، ‏{‏وأقرضتم الله قرضًا حسنًا‏}‏ بالإنفاق في سُبُل الخير، ‏{‏لأكفّرنّ عنكم سيئاتكم‏}‏ أي‏:‏ أستر عنكم ذنوبكم فلا نفضحكم بها، ‏{‏ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك‏}‏ العهد المؤكد، المعلَق عليه هذا الوعد العظيم، ‏{‏فقد ضلّ سواء السبيل‏}‏ أي‏:‏ تلف عن وسط الطريق، تلفًا لا شبهة فيه ولا عذر معه، بخلاف من كفر قبل أخذ العهد؛ فيمكن أن تكون له شبهة، ويتوهم له معذرة‏.‏

ثم إن بني إسرائيل نقضوا المواثيق التي أُخذت عليهم، فكفروا وقتلوا الأنبياء، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فبما نقضهم ميثاقهم لعنّاهم‏}‏ أي‏:‏ طردناهم وأبعدناهم، أو مسخناهم، ‏{‏وجعلنا قلوبهم قاسية‏}‏ أي‏:‏ يابسة صلبة لا ينفع فيها الوعظ والتذكير، أو رديَّة مغشوشة بمرض الذنوب والكفر‏.‏

ثم بيَّن نتيجة قوة قلوبهم فقال‏:‏ ‏{‏يُحرفون الكلم عن مواضعه‏}‏ لفظًا أو تأويلاً‏.‏ ولا قسوة أعظم من الجرأة على تغيير كتاب الله وتحريفه، ‏{‏ونسوا حظًا مما ذُكروا به‏}‏ أي‏:‏ تركوا نصيبًا واجبًا مما ذُكروا به من التوراة، فلو عملوا بما ذكَّرهم الله في التوراة ما نقضوا العهود وحرّفوا كلام الله من بعد ما علموه، لكن رَين الذنوب والأنهماك في المعاصي، غطت قلوبهم فقست ويبست، ‏{‏ولا تزال‏}‏ يا محمد ‏{‏تطلع على خائنة‏}‏ أي‏:‏ خيانة ‏{‏منهم‏}‏ أو على طائفة خائنة منهم، لأن الخيانة والغدر من عادتهم وعادة أسلافهم، فلا تزال ترى ذلك منهم ‏{‏إلا قليلاً منهم‏}‏ لم يخونوا، وهم الذين أسلموا منهم، ‏{‏فاعف عنهم واصفح‏}‏ حتى يأتيك أمر الله فيهم، أو إن تابوا وآمنوا، أو إن عاهدوا والتزموا الجزية، ‏{‏إنَّ الله يحبّ المحسنين‏}‏ إلى عباده كيفما كانوا‏.‏

ومن الإحسان إليهم‏:‏ جبرهم على الإيمان بالسيف وسوقهم إلى الجنة بسلاسل الامتحان‏.‏

الإشارة‏:‏ قد أخذ الله على هذه الأمة أن يلتزموا أحكام القرآن، ويحافظوا على مراسم الإسلام والإيمان ويجاهدوا نفوسهم في تحصيل مقام الإحسان، وبَعث من يقوم ببيان شرائع الإسلام والإيمان، ومن يعرف الطريق إلى مقام الإحسان، وقال الله لهم‏:‏ ‏{‏إني معكم‏}‏ بالنصر والتأييد، لئن أقمتم شرائع الإسلام، وحققتم قواعد الإيمان وعظمتم من يعرفكم بطريق الإحسان، لأغطين مساوئكم، ولأمحقن دعاويكم، فأوصلكم بما منى إليكم من الكرم والجود، ولأدخلنكم جنة المعارف تجري من تحتها أنهار العلوم وأنواع الحِكَم، فمن لم يقم بهذا، أو جحده فقد ضل عن طريق الرشاد، ومن نقض عهد الشيوخ المعرفين بمقام الإحسان، فقد طرد وأبعد غاية الإبعاد، وقسا قلبه، بعد اللين‏.‏ وقد ذكرنا في تفسير الفاتحه الكبير معنى النقباء والنجباء وسائر مراتب الأولياء، وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ وأخذنا أيضًا عهدًا وميثاقًا من النصارى، الذين سموا أنفسهم نصارى؛ ادعاء لنصرة عيسى عليه السلام ولم يقوموا بواجب ذلك عملاً واعتقادًا، أخذناه عليهم بالتزام أحكام الإنجيل، وأن يؤمنوا بالله وحده لا شريك له، ولا صاحبة ولا ولد، وأن يؤمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام إن أدركوه ويتبعوه، ‏{‏فنسوا حظًا مما ذُكروا به‏}‏ أي‏:‏ نسوا ما ذكرناهم به، وتركوا حظًا واجبًا مما كلفوا به، ‏{‏فأغرينا‏}‏ أي‏:‏ سلطنا ‏{‏بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة‏}‏، فهم يقتتلون في البر والبحر، ويتحاربون إلى يوم القيامة، فكل فرقة تلعن أختها وتكفرها، أو بينهم وبين اليهود، فالعداوة بينهم دائمة، ‏{‏وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون‏}‏ بالجزاء العقاب‏.‏

الإشارة‏:‏ يؤخذ من الآية أن من نقض العهد مع الله؛ بمخالفة ما أمره به أو نهاه عنه‏.‏ أو مع أولياء الله، بالانتقاد عليهم وعدم موالاتهم، ألقى الله في قلب عباده العداوة والبغضاء له، فيبغضه الله، ويبغضه عبادُ الله، ومن أوفى بما أخذه الله عليه من العهد بوفاء ما كلفه به، واجتناب ما نهاه عنه، وتودد إلى أوليائه، ألقى الله في قلب عباده المحبة والوداد، فيحبه الله، ويحبه عباد الله، ويتعطف عليه أولياء الله، كما في الحديث‏:‏ «إذا أحبَّ الله عبدًا نادى جبريلُ، إنَّ اللهَ يحبّ فلانًا فأحِبَّه، فيُحِبَّهُ جبرِيلُ‏.‏ ثم يُنَادِي في الملائكة‏:‏ إن اللهَ يُحِبُّ فُلاَنًا فأحِبُّوه‏.‏ فيُحِبُّه أهلُ السَّمَاءِ، ثم يُلقَى له القَبولُ في الأرض»‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 16‏]‏

‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ‏(‏15‏)‏ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏16‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ الضمير في‏:‏ ‏{‏به‏}‏، يعود إلى النور والكتاب، ووحَّدَه؛ لأن المراد به شيء واحد، لأن النور هو الكتاب المبين، أو لأنهما جنس واحد‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أهل الكتاب‏}‏ اليهود والنصارى ‏{‏قد جاءكم رسولنا‏}‏ محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏يُبين لكم كثيرًا مما كنتم تُخفون من الكتاب‏}‏ كصفة محمد صلى الله عليه وسلم، وآية الرجم التي في التوراة، وكبشارة عيسى بأحمد التي في الإنجيل، ‏{‏ويعفو عن كثير‏}‏ مما تخفونه وتحرفونه، فلم يخبر به، ولم يفضحكم، حيث لم يؤمر به، أو عن كثير منكم، فلا يؤاخذه بجرمه وسوء أدبه معه‏.‏

‏{‏قد جاءكم‏}‏ يا أهل الكتاب ‏{‏من الله نور وكتاب مبين‏}‏، عطف تفسير، فالنور هو الكتاب المبين، أو النور‏:‏ محمد عليه الصلاة والسلام والكتاب المبين‏:‏ القرآن؛ لأنه الكاشف لظلمات الشك والضلال، والواضح الإعجاز والبيان، ‏{‏يهدي به الله من اتبع رضوانه‏}‏ أي‏:‏ من اتبع رضى الله بالإيمان به، والعمل بما فيه، ‏{‏سُبل السلام‏}‏ أي‏:‏ طريق السلامة من العذاب، أو طرق الله الموصلة إليه، ‏{‏ويخرجهم من الظلمات إلى النور‏}‏ من ظلمات الكفر، إلى نور الإسلام ‏{‏بإذنه‏}‏ أي‏:‏ بإرادته وتوفيقه، ‏{‏ويهديهم إلى صراط مستقيم‏}‏ أي‏:‏ طريق توصلهم إليه لا عوج فيها‏.‏

الإشارة‏:‏ قد أطْلَع الله علماء الباطن على مقامات علماء الظاهر وأحوالهم وجل مساوئهم، ولا سيما من كان عالمًا بالظاهر ثم انتقل إلى علم الباطن، كالغزالي وابن عباد وغيرهما‏.‏ فقد تكلم الغزالي في صدر الإحياء مع علماء الظاهر، ففضح كثيرًا من مساوئهم‏.‏ وكذلك ابن عباد في شرح الحكم، وعفوًا عن كثير فهم على قدم رسول الله صلى عليه وسلم وخواص ورثته، لأنهم حازوا الوراثة كلها، كما في المباحث‏:‏

تَبِعَةُ العَالِم في الأقوَال *** والعَابِد الزَّاهِد في الأفعَال

وفِيهما الصُّوفِيُّ في السباق *** لكنَّه قّد زَادَ بالأخلاَق

فالولي نور من نور الله، وسر من أسراره، يُخرج به من سبقت له العناية من ظلمات الحجاب إلى نور الشهود، ويهدي به من اصطفاه لحضرته تعالى طريق الوصول إليه‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏17‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم‏}‏، والقائل بهذه المقالة هي الطائفة اليعقوبية من النصارى، كما تقدم‏.‏ وقيل‏:‏ لم يصرح بهذه المقالة أحدٌ منهم‏.‏ ولكن لزمهم حيث قالوا بأن اللاهوت حل في ناسوت عيسى مع أنهم يقولون الإله واحد، فلزمَهم أن يكون هو المسيح، ولزمهم الاتحاد والحلول؛ فنسب إليهم لازم قولهم، توضيحًا لجهلهم، وتقبيحًا لمعتقدهم‏.‏

ثم رد عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏قل فمن يملك من الله شيئًا‏}‏ أي‏:‏ من يمنع من قدرته وإرادته شيئًا، ‏{‏إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعًا‏}‏، وبيان الرد عليهم‏:‏ أن المسيح مقدورٌ ومقهور، قابل للفناء كسائر الممكنات، ومن كان كذلك فهو معزول عن الألوهية‏.‏ ثم أزال شبهتهم بحجة أخرى فقال‏:‏ ‏{‏ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما‏}‏، يتصرف فيهما كيف شاء، ‏{‏يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير‏}‏؛ فقدرته عامة؛ فيخلق من غير أصل؛ كالسماوات والأرض، ومن أصل؛ كخلق ما بينهما، وينشىء من أصل ليس هو جنسه؛ كآدام وكثير من الحيوانات، ومن أصل يجانسه، إما من ذكر وحده؛ كحواء، أو من أنثى وحدها‏:‏ كعيسى، أو منهما؛ كسائر الناس‏.‏ قاله البيضاوي‏:‏

الإشارة‏:‏ قد رُمي كثير من الأولياء المحققين بالاتحاد والحلول؛ كابن العربي الحاتمي، وابن الفارض، وابن سبعين، والششتري والحلاج، وغيرهم رضي الله عنهم عنهم وهم بُرءاء منه‏.‏ وسبب ذلك أنهم لما خاضوا بحار التوحيد، وكُوشفوا بأسرار التفريد، أو أسرار المعاني قائمة بالأواني، سارية في كل شيء، ماحية لكل شيء، كما قال في الحِكَم‏:‏ «الأكوان ثابتة بإثباته ممحوه بأحدية ذاته» فأرادوا أن يعبروا عن تلك المعاني فضاقت عبارتهم عنها؛ لأنه خارجة عن مدارك العقول، لا تدرك بالسطور ولا بالنقول‏.‏ وإنما هي أذواق ووجدان؛ فمن عبَّر عنها بعبارة اللسان كفَّر وزندق، وهذه المعاني هي الخمرة الأزلية التي كانت خفية لطيفة، ثم ظهرت محاسنها، وأبدت أنوارها وأسرارها، وهي أسرار الذات وأنوار الصفات، فمن عرفها وكوشف بها‏.‏ اتحد عنده الوجود، وأفضى إلى مقام الشهود‏.‏ وهي منزهة عن الحلول والاتحاد، إذ لا ثاني لها حتى تحل فيه أو تتحد معه، وقد أشرت إلى هذا المعنى في تائيتي الخمرية، حيث قلت‏:‏

تَنَزَّهت عن حُكمِ الحلول في وَصفِها *** فليسَ لها سِوَى في شَكلِه حَلَّتِ

تَجَلَّت عَرُوسًا في مَرَائي جَمَالِها *** وأرخَت سُتَور الكبرِياءِ لعِزَّتِي

فَمَا ظَاهِرٌ في الكَونِ غيرُ بهائها *** وما احتَجَبَت إلا لَحجِب سَرِيرتِي

فمن كوشف بأسرار هذه الخمرة، لم ير مع الحق سواه‏.‏ كما قال بعضُ العارفين‏:‏ ‏(‏لو كُلفتُ أن أرى غيره لم أستطع؛ فإنه لا غير معه حتى أشهده‏)‏‏.‏ ولو أظهرها الله تعالى للكفار لوجدوا أنفسهم عابدة لله دون شيء سواه، وفي هذا المعنى يقول ابن الفارض على لسان الحقيقة‏:‏

فما قَصَدُوا غيرَه وإن كان قَصدهُم *** سِوَاي وإن لم يُظهِروا عَقدَ نِيّه

والنصارى دمرهم الله في مقام الفرق والضلال حملهم الجهل والتقليد الرديّ على مقالاتهم التي قالوا في عيسى عليه السلام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ‏(‏18‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله‏}‏ أي‏:‏ أولاد بنيه؛ فاليهود يقولون‏:‏ نحن أولاد عزير، والنصارى يقولون‏:‏ نحن أشياع عيسى‏.‏ أو‏:‏ فينا أبناء الله ونحن أحباؤه، أو‏:‏ نحن مقربون عند الله كقرب الولد من والده‏.‏ وهذه دعوى ردَّها عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ لهم‏:‏ ‏{‏فلِمَ يعذبكم بذنوبكم‏}‏، وهل رأيتم والدًا يُعذب ابنه، وقد عذبكم في الدنيا بالمسخ والقتل والذل، وقد اعترفتم أنه يعذبكم بالنار أيامًا معدودة، ‏{‏بل أنتم بشر ممن خلق‏}‏ أي‏:‏ ممن خلقه الله، ‏{‏يغفر لمن يشاء‏}‏ بفضله؛ وهو من آمن منهم بالله ورسوله، ‏{‏ويعذب من يشاء‏}‏ بعدله؛ وهو من مات منهم على كفره، فأنتم كسائر البشر يعاملكم معاملتهم، لا مزية لكم عليهم، ‏{‏ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما‏}‏ كلها سواء في كونها ملكًا وعبيدًا الله سبحانه ‏{‏وإليه المصير‏}‏، فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، فلا فضل لأحد على أحد إلا بالتقى‏.‏

الإشارة‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلِمَ يعذبكم بذنوبكم‏}‏ أي‏:‏ فلو كنتم أحباءه لما عذبكم؛ لأن الحبيب لا يعذب حبيه، حُكي عن الشبلي رضي الله عنه أنه كان إذا لبس ثوبًا جديدًا مزقه، فأراد ابن مجاهد أن يعجزه بمحضر الوزير فقال له‏:‏ أين تجد في العلم فساد ما ينتفع به‏؟‏ فقال له الشبلي‏:‏ أين في العلم‏:‏ ‏{‏فَطَفِقَ مَسْحَا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ‏}‏ ‏[‏صَ‏:‏ 33‏]‏ ‏؟‏ فسكت، فقال له الشبلي‏:‏ أنت مقرىء عند الناس، فأين في القرآن‏:‏ إن الحبيب لا يعذب حبيبه‏؟‏ فسكت ابن مجاهد، ثم قال‏:‏ قل يا أبا بكر، فقرأ له الشبلي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالْنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَآؤُاْ اللهِ وَأَحِبَّآؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم‏}‏ ‏[‏المَائدة‏:‏ 18‏]‏، فقال ابن مجاهد‏:‏ كأني والله ما سمعتها قط‏.‏ ه‏.‏

وفي الحديث‏:‏ «إذا أحَبَّ اللهُ عبدًا لاَ يضُرُّه ذَنبٌ»، ذكره في القوت‏.‏ وفي المثل الشائع‏:‏ ‏(‏من سبقت له العناية لا تضره الجناية‏)‏‏.‏ وفي الصحيح «لعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أهلِ بَدرِ فَقَالَ‏:‏ افعَلُوا مَا شِئتم فَقَد غَفَرتُ لَكم»، وسببه معلوم، وفي الوقت عن زيد بن أسلم‏:‏ ‏(‏إن الله عز وجل ليحب حتى يبلغ من حبه له أن يقول له‏:‏ اصنع ما شئت فقد غفرت لك‏)‏‏.‏ وفي القصد للشيخ أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه قال‏:‏ يبلغ الولي مبلغًا يقال له‏:‏ أصحبناك السلامة، وأسقطنا عنك الملامة، فاصنع ما شئت‏.‏ ه‏.‏

وليس معناه إباحة الذنوب، ولكنه لمّا أحبه عصمه أو حفظه، وإذا قضى عليه بشيء ألهمه التوبة، وهي ماحية للذنوب، وصاحبها محبوب، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله يحب التوابين‏}‏‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏19‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ جملة ‏{‏يُبين‏}‏‏:‏ حال، أي‏:‏ جاءكم رسولنا مبينًا لكم، و‏{‏على فترة‏}‏‏:‏ متعلق بجاء، أي‏:‏ جاءكم على حين فترة وانقطاع من الوحي، و‏{‏أن تقولوا‏}‏‏:‏ مفعول من أجله، أي‏:‏ كراهية أن تقولوا‏.‏

يقول الحقّ جلَ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أهل الكتاب‏}‏؛ اليهود والنصارى ‏{‏قد جاءكم رسولنا‏}‏ محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏يُبين لكم‏}‏ ما اختلفتم فيه، أو ما كنتم من أوامر الدين، أو مطلق البيان‏.‏ جاءكم ‏{‏على‏}‏ حين ‏{‏فترة من الرسل‏}‏ وانقطاع من الوحي، أرسلناه كراهية ‏{‏إن تقولوا‏}‏ يوم القيامة‏:‏ ‏{‏ما جاءنا من بشير ولا نذير‏}‏، فتعتذروا بذلك، ‏{‏فقد جاءكم بشير ونذير‏}‏ فلا عذر لكم، ‏{‏والله على كل شيء قدير‏}‏ فيقدر على الإرسال من غير فترة، كما في أنبياء بني إسرائيل؛ فقد كان بين موسى وعيسى ألف نبي، وبينهما ألف وسبعمائة سنة، وعلى الإرسال على الفترة، كما بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ كان بينهما ستمائة سنة، أو خمسمائة سنة وتسع وستون سنة‏.‏ قاله البيضاوي‏:‏

والذي في الصحيح‏:‏ أن الفترة ستمائة سنة، وفي الصحيح أيضًا عنه عليه الصلاة السلام‏:‏ «أنا أولى النَّاس بعِيسَى في الأُوَلى والآخرة وليس بَينَنَا نبي» وهو يرد ما حكاه الزمخشري وغيره‏:‏ أَن بينهما أربعة أنبياء‏:‏ ثلاثة من بني إسرائيل وواحد من العرب، وهو خالد بن سِنان العبسي؛ لأن النكرة في سياق النفي تعم‏.‏ قاله المحشي‏.‏

الإشارة‏:‏ ظهور أهل التربية بعد زمان الفترة، وخمود أنوار الطريقة وأسرار الحقيقة، حجة على العباد، ونعمة كبيرة على أهلِ العشق والوداد، من انتكب عنهم لقي الله بقلب سقيم، وقامت بهم الحجة عليهم عند الملك الكريم، ومن اتبعهم وحطَ رأسه لهم فاز بالخير الجسيم، والنعيم المقيم؛ حيث لقي الله بقلب سليم، وقد ظهروا في زماننا هذا بعض اندراس أنوار الطريقة، وخمود أسرار الحقيقة، فجدد الله بهم الطريقة، وأحيا بهم أسرار الحقيقة، منهم شيخنا أبو المواهب صاحب العلوم اللدنية والأسرار الربانية، البحر الفياض، سيدي محمد بن أحمد البوزيدي الحسني، وشيخه القطب الواضح، والجبل الراسخ، شيخ المشايخ، مولاي العربي الدرقاوي الحسني، أطال الله بركاتهما للأنام، فقد تخرج على أيديهما الجم الغفير من الأولياء، وليس الخبر كالعيان‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآَتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏و‏}‏ اذكر ‏{‏إذ قال موسى لقومه‏}‏‏:‏ يا بني إسرائيل ‏{‏اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء‏}‏ يسُوسُونكم، كلما مات نبي خلفه نبي، فقد شرفكم بهم دون غيركم، إذ لم يبعث في أمة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء، ‏{‏وجعلكم ملوكًا‏}‏ أي‏:‏ جعل منكم ملوكًا، وقد تكاثر فيهم الملوك تكاثر الأنبياء، فكان كل نبي معه ملك ينفذ أحكامه، فكانت دار النبوة ودار المملكة معلومة، يخلف بعضهم بعضًا في النبوة والمُلك، استمر ذلك لهم، حتى قتلوا يحيى، وهموا بقتل عيسى، فنزع الله منهم الملك، وأنزل عليهم الذل والهوان‏.‏

وقيل‏:‏ لمّا كانوا مملوكين في أيدي القبط، فأنقذهم الله وجعلهم مالكين لأنفسهم، سماهم ملوكًا‏.‏

‏{‏وآتاكم ما لم يُؤت أحدًا من العالمين‏}‏ من فلق البحر، وتظليل الغمام، وإنزال المن والسلوى، ونحوها، أو المراد عالمي زمانهم، وعن أبي سعيد الخدري قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كَانَ بنو إسرَائيل إذا كَانَ لأحَدِهم خَادِمٌ وامرَأة يُكتَب مَلِكًا» وقال ابن عباس‏:‏ ‏(‏من كان له بيت وخادم وامراة فهو مَلِك‏)‏، وعن أبي الدرداء قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم «مَن أصبَحَ مُعَافّى في بَدَنِه، آمنًا في سِربِه، عِندَه قُوتُ يَومِه، فكأنما حِيزَت له الدنيا بحذافيرها، يكفيكَ منها، يا ابنَ آدم، ما سَدَّ جوعَتَكَ، وَوَارَ عَورَتك، فإن كان بيتٌ يُوارِيك فذاك، وإن كانت دابة فبخ بخ، فلق الخبز، وماء الجر وما فَوق الإزار حِسَابٌ عليك»‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ ‏(‏كانت منازلهم واسعة، فيها مياه جارية، فمن كان مسكنه واسعًا وفيه ماء جارٍ، فهو مالك‏)‏‏.‏ وقال قتادة‏:‏ كانوا أول من ملك الخدم، وأول من سخر لهم الخدم من بني آدم‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ كل من رزقه الله من يأخذ بيده ومن يستعين به على ذكر ربه، فليذكر نعمة الله عليه، فقد أسبغ الله عليه نعمه ظاهرة وباطنة‏.‏ وكل من ملك نفسه وهواه، وأغناه الله عما سواه، فهو ملك من الملوك‏.‏ وكل من خرجت فكرته عن دائرة الأكوان، واتصل بفضاء الشهود والعيان، فقد آتاه الله ما لم يؤت أحدًا من العالمين‏.‏ وقد كُنتُ ذات يوم جالسًا في الجامع الأعظم من مدينة تطوان، فانتبعت فإذا مصحف إلى جنبي، فقال لي الهاتف‏:‏ انظر تجد مقامك، فأعرضت عنه، فأعاد عليَّ الهاتف ثلاث مرات، فرفعته، ونظرت، فإذا في أول الورقة‏:‏ ‏{‏وآتاكم ما لم يؤت أحدًا من العالمين‏}‏، فحمدت الله تعالى وأثنيت عليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 26‏]‏

‏{‏يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ‏(‏21‏)‏ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ‏(‏22‏)‏ قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏23‏)‏ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ‏(‏24‏)‏ قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ‏(‏25‏)‏ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏فتنقلبوا‏}‏‏:‏ منصوب بأن في جوب النهي، أو عطف على المجزوم، و‏{‏ما داموا‏}‏‏:‏ بدل من ‏{‏أبدًا‏}‏؛ بدل بعض، و‏{‏أخي‏}‏ يحتمل النصب عطف على ‏{‏نفسي‏}‏، أو رفع عطف على ‏{‏أن‏}‏ مع اسمها، أو مبتدأ حُذف خبره، أو جر عطف على ياء المضاف، على مذهب الكوفيين‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ حاكيًا عن موسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة‏}‏؛ أرض بيت المقدس، قدسها الله، حيث جعلها قرار أنبيائه ومسكن المؤمنين‏.‏ وفي مدحها أحاديث كثيرة‏.‏ وقيل‏:‏ الطور وما حوله، أو دمشق وفلسطين، أو الشام، ‏{‏التي كتب الله لكم‏}‏ أي‏:‏ التي كتب الله في اللوح المحفوظ، أنها لكم مسكنًا إن جاهدتم وأطعتم نبيكم، ‏{‏ولا ترتدوا على أدباركم‏}‏ أي‏:‏ لا ترجعوا مدبرين هاربين خوفًا من الجبابرة، أو‏:‏ لا ترتدوا عن دينكم بالعصيان، وعدم الوثوق بالله، ‏{‏فتنقلبوا خاسرين‏}‏ الدنيا والآخرة‏.‏ رُوِي أنهم لما سمعوا حالهم من النقباء بكوا، وقالوا‏:‏ ليتنا متنا بمصر، تعالوا نجعل علينا رأسًا ينصرف بنا إلى مصر، ثم ‏{‏قالوا يا موسى إن فيها قومًا جبارين‏}‏ أقوياء متغالبين، لا طاقة لنا بمقاومتهم، وهم قوم من العمالقة، من بقية قوم عاد، ‏{‏وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها‏}‏ بأمر سماوي، أو يُسلط عليهم من يخرجهم من غيرها، ‏{‏فإن يخرجوا منها فإنا داخلون‏}‏ فيها‏.‏

‏{‏قال رجلان‏}‏؛ كالب بن يوقنّا، ويوشع بن نون ابن آخت موسى وخادمه ‏{‏من الذين يخافون‏}‏ الله، أو رجلان من الجبابرة أسلما وصارا إلى موسى، وعليه قراءة ‏{‏يُخافان‏}‏ بضم الياء، ‏{‏أنعم الله عليهما‏}‏ بالإسلام والتثبت، قالا‏:‏ ‏{‏ادخلوا عليهم الباب‏}‏ أي‏:‏ باب المدينة، أي‏:‏ باغِتوهم بالقتال، ‏{‏فإذا دخلتموه فإنكم غالبون‏}‏ أي‏:‏ ظاهرون عليهم، فإنهم أجسام لا قلوب فيها‏.‏ يحتمل أن يكون علمهما بذلك من قِبل موسى، أو من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏التي كتب الله لكم‏}‏، أو من عادته سبحانه في نصر رسله وأوليائه، وما عَهِدا من صنيعه تعالى مع موسى من قهر أعدائه‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين‏}‏ به، ومصدقين لوعده‏.‏

‏{‏قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدًا ما داموا فيها‏}‏، وهذا من تعنتهم وعصيانهم، وأشنعُ منه قولهم‏:‏ ‏{‏فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون‏}‏، قالوه استهزاء بالله ورسوله وعدم مبالاة بهما، وانظر فضيلة الأمة المحمدية، وكمال أدبها مع نبيها عليه الصلاة والسلام فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الحديبية لأصحابه حين صُد عن البيت‏:‏ إني ذاهب بالهدي فناحِرُه عند البيت، فقال المقداد بنُ الأسود‏:‏ أما والله ما تقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى‏:‏ ‏{‏فاذهب أنت وربك فقَاتلا إنا هآهنا قاعدون‏}‏، ولكن نقاتل عن يمينك وشمالك، ومن بين يديك من خلفك، ولو خُضت البحر لخضناه معك، ولو تسنَمت جبلاً لعلوناه معك، ولو ذهبت بنا إلى بَرك الغماد لتبعناك، فلما سمعها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تابعوه على ذلك فَسُرَ صلى الله عليه وسلم وأشرق وجهه‏.‏

ه‏.‏

ولما سمع موسى مقالة قومه له غضب، ودعا ربه فقال‏:‏ ‏{‏ربّ إني لا أملك إلا نفسي وأخي‏}‏ أي‏:‏ لا أثق إلا بنفسي وأخي، ولا قدرة لي على غيرهما، والرجلان المذكوران، وإن كانا موافقين له، لكنه لم يوثق عليهما، لما كبد من تلوّن قومه، ثم دعا عليهم فقال‏:‏ ‏{‏فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين‏}‏ أي‏:‏ احكم بيننا وبينهم بما يستحق كل واحد منا ومنهم، أو بالتبعيد بيننا وبينهم، وتخليصنا من صحبتهم‏.‏

رُوِي أنه لما دعا عليهم ظهر فوقهم الغمام، وأوحى الله إليه‏:‏ يا موسى إلى متى يعصي هذا الشعب‏؟‏ لأُهلكنهم جميعًا، فشفع فيهم موسى عليه السلام فقال الله تعالى له‏:‏ قد غفرت لهم بشفاعتك، ولكن بعد ما سَميتَهم فاسقين، ودعوت عليهم، بي حلفت لأحرمنَّ عليهم دخول الأرض المقدسة، وذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض‏}‏ يحتمل أن يكون «أربعين» متعلقًا بمحرمة، فيكون التحريم عليهم مؤقتًا غير مؤبد فيوافق ظاهر قوله‏:‏ ‏{‏التي كتب الله لكم‏}‏‏.‏

ويؤيد هذا ما رُوِي أن موسى عليه السلام لما خرج من التيه، سار بمن بقي معه من بني إسرائيل، ويوشع على مقدمته، ففتح بيت المقدس، فبقي فيها ما شاء الله، ثم قبض‏.‏ ويحتمل أن يكون «أربعين» متعلقًا ب ‏{‏يتيهون‏}‏، فيكون التحريم مؤبدًا، وعلى هذا لم يبق أحد ممن دخل التيه إلا يوشع وكالب، ولم يدخل الأرض المقدسة أحد ممن قال له‏:‏ ‏{‏اذهب أنت وربك‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏، بل كلهم هلكوا في التيه، وإنما دخلها أشياعهم‏.‏

رُوِي أن موسى عليه السلام لما حضره الموت في التيه أخبرهم بأن يوشع بعده نبي، وأن الله أمره بقتال الجبابرة، فسار بهم يوشع، وقاتل الجبابرة وكان القتال يوم الجمعة، فبقيت منهم بقية، وكادت الشمس أن تغرب ليلة السبت، فخشي أن يعجزوه، فقال‏:‏ اللهم اردد الشمس عليَّ، وقال للشمس‏:‏ إنك في طاعة الله وأنا في طاعته، فوقفت مثل يوم حتى قتلهم، ثم قتل ملوك الأرمانيين، وقتل مِن ملوك الشام أحدًا وثلاثين ملكًا، فصارت الشام كلها لبني إسرائيل، وفرَّق عماله في تواحيها، وبقيت بنو إسرائيل في التيه أربعين سنة يتيهون في الأرض في ستة فراسخ، بين فلسطين وأيلة، متحيرين، يسيرون من الصباح إلى السماء جادين في السير، فإذا هم بحيث ارتحلوا عنه، ثم يسيرون بالليل كذلك فيصبحون حيث ارتحلوا، وكان الغمام يظلهم من الشمس وعمود من نور يطلع بالليل فيضيء لهم، وكان طعامهم المن والسلوى، وماؤهم من الحجر الذي يحمله موسى، واختلف في الكسوة، فقيل‏:‏ أبقى الله كسوتهم معجزة لموسى، وقيل‏:‏ كساهم مثل الظفر‏.‏

والأكثر أن موسى وهارون كانا معهم زيادة في درجاتهما، وكان عقوبة لقومهما وأنهما ماتا فيه، مات هارون أولاً ودفنه أخوه في كهف، وقيل‏:‏ رُفع على سرير في قبة، ثم مات موسى عليه السلام ودفن بقرب من الأرض المقدسة، رمية بحجر، كما في الحديث، ثم دخل يوشع الأرض المقدسة بعد ثلاثة أشهر‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

ثم قال تعالى لموسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏فلا تأس‏}‏ أي‏:‏ لا تخزن، ‏{‏على القوم الفاسقين‏}‏، خاطبه الحق تعالى بذلك لمَّا ندم على الدعاء عليهم، فقال له‏:‏ أنهم أحق بذلك لفسقهم وعصيانهم‏.‏

الإشارة‏:‏ يقول الحقّ جلّ جلاله للمتوجهين إليه من المريدين‏:‏ ادخلوا الحضرة المقدسة التي كتب الله لكم، إن دمتم على جهاد أنفسكم، وصدقتم في طلب ربكم، وبقيتم في تربية شيوخكم، ولا ترتدوا على أدباركم بالرجوع عن صحبة شيوخكم من الملل مع طول الأمل، قتنقلبوا خاسرين، فإن حضرتي محفوفة بالمكاره، والطريقة الموصلة إليها مرصودة للقواطع والعوائق، فإن كان ممن لم يكتب له فيها نصيب، قال‏:‏ لن ندخلها أبدًا ما دام القواطع فيها، ورجع على عقبيه، يتيه في مهامه شكوكه وأوهامه، وإن كان ممن سبقت له العناية وحقت به الرعاية قال‏:‏ ‏{‏ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين‏}‏، فيبادر إلى قتل نفسه، من غير تأن ولا خوف ولا فزع، فحضرة التحقيق لا ينالها إلا الشجعان، ولا يسكنها إلا الأكابر من أهل العرفان وإلى ذلك أشار صاحب العينية بقوله‏:‏

وإيَّاك جَزعًا لا يَهُولُكَ أمرُهَا *** فَمَا نَالَهَا إلا الشُّجاعُ المُقّارعُ

وقال الورتجبي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا أملك إلا نفسي وأخي‏}‏‏:‏ من بلغ عين التمكين ملك نفسه وملك نفوس المريدين؛ لأنه عرفها بمعرفة الله، وقمعها من الله بسلطان سائس قاهر، من نظر إليه يفزع من الله، ولا يطيق عصيانه ظاهرًا وباطنًا، فأخبر عليه السلام عن محلّ تمكينه وقدرته على نفسه ونفس أخيه، وأعلمنا أن بينهما اتحادًا، بحيث إنه إذا حكم على نفسه صار نفس أخيه مطمئنة طائعة لله بالانفعال‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «المؤمنون كنفس واحدة»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 30‏]‏

‏{‏وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ‏(‏27‏)‏ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ‏(‏28‏)‏ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ‏(‏29‏)‏ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ الضمير في ‏{‏عليهم‏}‏‏:‏ لبني إسرائيل؛ لتقدم شأنهم، ولاختصاصهم بعلم قصة بني ابني آدم، ولإقامة الحجة عليهم بهمهم ببسط اليد إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏واتل عليهم‏}‏ أي‏:‏ على بني إسرائيل؛ إذ الكلام كان معهم، أو على جميع الأمة، أو على جميع الناس، إذ هو أول الكلام على بقية حفظ الأبدان ‏{‏نبأ ابني آدم‏}‏ وهو قابيل وهابيل ‏{‏بالحق‏}‏ أي‏:‏ تلاوة ملتبسة بالحق، أو نبأ ملتبسًا بالحق موافقًا لما في كتب الأوائل‏.‏

‏{‏إذ قرّبا قربانًا فتُقبل من أحدهما‏}‏ وهو هابيل، ‏{‏ولم يتُقبل من الآخر‏}‏ وهو قابيل، وسبب تقريبهما القربان أن آدم عليه السلام كان يُولد له من حواء توأمان في كل بطن‏:‏ غلام وجارية، إلا شيتًا، فإنه ولد منفردًا، وكان جميع ما ولدته حواء أربعين، بين ذكر وأنثى، في عشرين بطنًا، أولهم قابيل، وتوأمته أقليما، وآخرهم عبد المغيث، ثم بارك الله في نسل آدم‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ لم يمت آدم حتى بلغ ولده، وولد ولده، أربعين ألفًا، ورأى فيهم الزنا وشُرب الخمر والفساد، وكان غشيان آدم لحواء بعد مهبطهما إلى الأرض، وقال ابن إسحق عن بعض العلماء بالكتاب الأول‏:‏ إن آدم كان يغشى حواء في الجنة، قبل أن يصيب الخطيئة، فحملت في الجنة بقابيل وتوأمته، ولم تجد عليهما وحمًا ولا غيره، وحملت في الأرض بهابيل وتوأمته، فوجدت عليهما الرحم والوصب والطلق والدم‏.‏

وكان آدم إذا كبر ولده يزوج غلام هذا البطن بجارية بطن آخر، فكان الرجل يتزوج أيّ أخواته شاء إلا تَوأمَته، لأنه لم يكن نساء يومئٍذ، فأمر الله تعالى آدم أن يزوج قابيل لَودَاء توأمة هابيل، وينكح هابيل أقليما أخت قابيل، وكانت أحسن الناس، فرضي هابيل وسخط قابيل، وقال‏:‏ أختي أحسن، وهي من ولادة الجنة، وأنا أحق بها، فقال له أبوه‏:‏ لا تحل لك، فأبى، فقال لهما آدم‏:‏ قربًا وقربانًا، فأيكما قُبل قربانه فهو أحق بها‏.‏

وكان قابيل صاحب زرع، فقرَّب حِملاً من زرع رديء، وأضمر في نفسه‏:‏ لا أُبالي قُبل أو لا، لا يتزوج أختي أبدًا، وكان هابيل صاحب غنم، فقرّب أحسن كبش عنده، وأضمر في نفسه الرضا لله تعالى، وكانت العادة حينئٍذ أن تنزل نارٌ من السماء فتأكل القربان المقبول، وإن لم يقبل لم تنزل، فنزلت نار من السماء فأكلت قربان هابيل، وتركت قربان قابيل، فحسده، وقال له‏:‏ ‏{‏لأقتلنك‏}‏، حسدًا على تقبل قربانه دونه، فقال له أخوه‏:‏ ‏{‏إنما يتقبل الله من المتقين‏}‏ الكفر، أي‏:‏ إنما أُوتيت من قبل نفسك بترك التقوى، لا من قِبلي، فِلمَ تقتلني‏؟‏

قال البيضاوي‏:‏ وفيه إشارة إلى أن الحاسد ينبغي أن يرى حرمانه من تقصيره، ويجتهد في تحصيل ما به صار المحسود محظوظًا، لا في إزالة حظه، فإن ذلك مما يضره ولا ينفعه، وأن الطاعة لا تقبل إلا من مؤمن متقي‏.‏

ه‏.‏ وفيه نظر‏:‏ فإن تقوى المعاصي ليست شرطًا في قبول الأعمال بإجماع أهل السنة، إلا أن يحمل على تقوى الرياء والعجب‏.‏ انظر الحاشية‏.‏

ثم قال له أخوه هابيل‏:‏ ‏{‏لئن بسطت إليَّ يدك لتقتلني ما أنا بباسطٍ يَدِيَ إليك لأقتلك إني أخاف الله ربّ العالمين‏}‏ أي‏:‏ لئن بدأتني بالقتل لم أبدأك به، أو لم أدفعك عني، وهل تركه للدفع تورع، وهو الظاهر أو كان واجبًا عندهم، وهو قول مجاهد‏؟‏ وأما في شرعنا‏:‏ فيجوز الدفع، بل يجب، قاله ابن جزي‏.‏ وقال البيضاوي‏:‏ قيل‏:‏ كان هابيل أقوى منه، فتحرج عن قتله، واستسلم له خوفًا من الله، لأن الدفع لم يُبح بعدُ، أو تحريًا لِمَا هو الأفضل‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كُن عبدَ الله المقتُول، ولا تكُن عبدَ الله القاتل» وإنما قال‏:‏ ‏{‏ما أنا بباسط‏}‏ في جواب ‏{‏لئن بسطت‏}‏؛ للتبري من هذا الفعل الشنيع، والتحرز من أن يوصف به، ولذلك أكد النفي بالباء‏.‏ ه‏.‏

ثم قال له هابيل‏:‏ ‏{‏إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار‏}‏ أي‏:‏ إني أريد بالاستسلام وعدم الدفع أن تنقلب إلى الله ملتبسًا بإثمي، أي‏:‏ حاملاً لإثمي لو بسطت إليك يدي، وإثمك ببسطك بيدك إليّ، ونحوه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «المُستَبَّان ما قَالاَ فَعَلى البادِىء منهما مَا لَم يَعتَدِ المَظلُومُ» أو بإثم قتلى وبإثمك الذي لم يتقبل من أجله قربانك، أو بسائر ذنوبي فتحملها عني بسبب قتلك لي؛ فإن الظالم يجعل عليه يوم القيامة ذنوب المظلوم ثم يطرح في النار، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏وذلك جزاء الظالمين‏}‏، يحتمل أن يكون من كلام هابيل، أو استئناف من كلام الله تعالى، أي‏:‏ جزاؤهم يوم القيامة أن يحملوا أوزار المظلومين، ثم يطرحون في النار، كما في حديث المفلس‏.‏

ولم يرد هابيل بقوله‏:‏ ‏{‏إني أريد‏}‏، أنه يُحب معصية أخيه وشقاوته، بل قصد بذلك الكلام أنه إن كان القتل لا محالة واقعًا فأريد أن يكون لك لا لي، والمقصود بالذات‏:‏ ألا يكون له، لا أن يكون لأخيه‏.‏ ويجوز أن يكون المراد بالإثم عقوبته‏.‏ وإرادة عقاب العاصي جائزة‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

‏{‏فطوّعت له نفسه قتل أخيه‏}‏ أي‏:‏ سهلت له ووسِعته ولم تضق منه، أو طاوعته عليه وزينته له، ‏{‏فَقتله فأصبح من الخاسرين‏}‏ دينًا ودنيا، فبقي مدة عمره مطرودًا محزونًا‏.‏ قال السدي‏:‏ لما قصد قابيلُ قتل هابيل، راغ هابيل في رؤوس الجبال، ثم أتاه يومًا من الأيام، فوجده نائمًا فشدخ رأسه بصخرة فمات، وقال ابن جريج‏:‏ لم يدر قابيل كيف يقتل هابيل‏؟‏ فتمثل له إبليس، وأخذ طيرًا فوضع رأسه على حجر، ثم شدخه بحجر آخر، وقابيل ينظر، فعلمه القتل، فوضع رأس أخيه على حجر ثم شدخه بحجر آخر‏.‏

وكان لهابيل يوم قتل عشرون سنة، وقبره قيل‏:‏ عند عقبة حراء، وقال ابن عباس‏:‏ عند ثور وقال جعفر الصادق‏:‏ بالبصرة، في موضع المسجد الأعظم‏.‏

الإشارة‏:‏ قد تضمنت هذه الآية من طريق الإشارة ثلاث خصال، يجب التحقق بها على كل مؤمن متوجه إلى الله تعالى‏:‏ أولها‏:‏ التطهير من رذيلة الحسد، لاذي هو أول معصية ظهرت في السماء والأرض، وقد تقدم الكلام عليه في النساء، الثانية‏:‏ التطهير من الشرك الجلي والخفي، والتغلغل في التبري من الذنوب التي توجب عدم قبول الإعمال، ويتحصل ذلك بتحقيق الإخلاص، والثالثة‏:‏ عدم الانتصار للنفس والدفع عنها إلا فيما وجب شرعًا، فقد قالوا‏:‏ ‏(‏الصوفي دمه هدر، وماله مباح‏)‏؛ فلا ينتصر لنفسه ولو بالدعاء، فإما أن يسكت، أو يدعوا لظالمه بالرحمة والهداية، حتى يأخذ الله بيده اقتداء برسوله صلى الله عليه وسلم، حيث قال «اللهم اعفِر لِقَومي فَإنَّهُم لا يَعلَمُونَ»‏.‏